الوحشية هي البديل الطبيعي عن التقية...
السرُّ وكتمانه: للسادة الصوفية فقط.
حتى الأمم المتحدة أقرَّتها...
إذا كانتِ التقية من كُبريات التُّهَمِ التي يُقذفُ بها العلويون جهلاً أو حقداً، فهي عندهم من جليلاتِ الأخلاقِ وعظيماتِ الآداب التي من هُدي إليها، فقد أوتي خيراً كثيراً...
ولا أعرفُ، بل وأجزمُ، وبلا تقيَّةٍ، أنَّ التقيَّةَ هي في قيمتها وتقديرها تضاهي عند العلويين (النصيريين) طهارة المولد. وهم إذا غالوا بفكرة ما يوماً كان غلوهم حصراً بالتقية منهاجاً، وإذا رأوا خلاصاً لهم كانت هي دون غيرها المعراجُ... حتى رووا في مصادرهم عن إمامهم الصادق(ع): التقية ديني ودين آبائي" و"من لا تقية له لا دين له".
وقد دأبَ كلُّ من حاول تَصيُّد العلويين على التركيز على هذه التقية منحرفاً بمفهومها الراقي إلى مساراتٍ عوجاء، ومهابط سُفلية، تقوده إليها غريزته وأحقاده، وما تصورُّهُ له ذاكرته المتخمة بالثاراتِ. وقد حصروها في معنىً واحدٍ، وكالوا عليه التهم جزافاً، وجعلوه صورةً نمطيةً وسلاحاً فتاكاً (حسب زعمهم) يجردونه علينا تحليلاً لقتلنا، تطهيراً لبلادهم من شركنا، وهو: السرية أو الباطنية، ومنهم ما قال عنه بالغنوصية.
ولا أعرفُ أيَّةَ باطنيةٍ قصدوا، وأيَّةَ سريَّةٍ وقعوا عليها عن معتقداتنا، وكتبنا بالمئاتِ وعلماؤنا بالعشراتِ، وشهاداتهم من أرقى الجامعات العالمية، في مجتمع يمتدُ بأدنى إحتمالٍ من جبل محسن مروراً بالساحل السوري وصولاً إلى تركيا... ناهيك عن الاغتراب في مختلف قارات العالم. وأيُّ معجزةٍ هي القادرة على جعل ملايين من الناسِ يبقون على عقيدةٍ باطنيةٍ لا تكشف إلا لأهلها؟ إلاَّ إذا كان ذلك كله مكابرة للحق ومجاكرة لأهله: وليس يصحُّ في الأذهان شيءٌ إذا احتاج النهارُ إلى دليلِ.
وهنا لا بُدَّ من الإشارة إلى الحركة الصحفية للعلويين التي نشطت في النصف الأول من القرن الماضي والتي نشرت الكثير والكثير عن العلويين ومؤلفاتهم(1)، وتُوِّجتْ في النصف الثاني بعدد من العلماء الذين نالوا شهاداتِ دكتوراه أدبية وفلسفية من جامعاتٍ مرموقة.
ناهيك عن الأديبات العلويات اللواتي لعبن دوراً مهماً في يقظة العلويين(2).
ولم تنقطع أبداً حركة التأليف المستمرة حتى اليوم بوتيرة ترتفع حيناً وتنخفض حيناً آخر حسب الظروف السياسية التي لم تهدأ معنا... ومع كل هذا وذاك مضافاً إليه بياناً موقعاً من علماء العلويين عن عقيدتهم، ما زلنا بعد مئة عامٍ نُسألُ عنها؟ أهو من باب التحامل أم من باب التجاهل... والحالين عندنا سواء وسيأتي الحديث عنها إن شاء الله مفصلاً في مقالٍ مفرد.
ومن باب الموضوعية يجب تحميل العلويين الكثير من المسؤولية في ضعف دور النشر ورداءة التوزيع وافتقارهم إلى مركز أبحاثٍ يعنى بإعادة نشر هذا التراث لتذكير القريب والبعيد.
وقد سئمنا أن نقف دوماً في موقع المتهم الذي عليه أن يدافع عن نفسه أمام خصمه وإلاَّ أصاب منه مقتلاً. ولستُ شخصياً معنيَّاً بتقديم تبريراتٍ وتفسيراتٍ فألف عالمٍ لا يرضون محتجٍ. ولكن أقدم اعتقادي كاملاً بكل حرية راجياً احترامه، كما ألزمتُ نفسي احترام كل رأيٍّ يعارضني دون تجريح وتكفير...
التقية عندنا أيها الأخوة منظومة متكاملة من الآدابِ التي تلزم السالك فِي مختلف مجالات الحياة بناءَ كلّ تصرفاته الخاصّة وعلاقاته العامّة مع الأفراد والمجتمع بأناقة ولباقةٍ ولياقةٍ.
هي فن تدبير الأمور وامتصاص الصدمات وتدوير الزوايا لتحقيق حياةٍ أفضل.
هي سياسة المواجهة والدفاع الأقوى وحماية النفس الأجدى.
هي بالمختصر الذي يفهمه الجميع اليوم تُقابل (الإتيكيت Étiquette) الذي يُعرف بأنه "فن الخصال الحميدة" أو "السلوك بالغ التهذيب" وتتعلق قواعده بآداب السلوك، والأخلاق والصفات الحسنة، ويضم مجموعة القواعد والمبادئ المكتوبة، وغير المكتوبة، والتي تنظم المجاملات والأسبقية، ومختلف المناسبات والحفلات والمآدب الرسمية والاجتماعية، وهذه القواعد والمبادئ تدل على الخلق القويم الذي يجمع بين الرقي، والبساطة، والجمال.
وما البديل عن التقية؟ في غياب الحرية الفكرية والعقائدية، وفي ضوء الأحداث التاريخية التي شهدتها هذه المنطقة بفظاعاتها التي انعكست آثارها إلزاماً في الدخول في طاعة القوي وإلاَّ قُتِل.
وبما أن هذه الشعوب لم ترتق بعد إلى مستوى قادرٍ على تقبل الرأي الديني الآخر باحترامٍ، تكون التقية هي الحل درءاً للقتل والذبح... والبديل عنها هي الوحشية مهما جهد المتآمرون عليها في تحقيرها وتحميلها معاني النفاق والدجل والمراوغة...
السرُّ وكتمانه، للسادة الصوفية فقط: وهذه الأسرار لم تكتب في سطورٍ فلذلك هي غير موجودةٍ، والعارف بطرق الصوفية يدري أنها تجليات خاصة بعد دُرْبَةٍ طويلةٍ ومرانٍ شاقٍّ ولها شروط وأحوال ومقامات، وقالوا في تعريفه:
عِلمُ التَّصوّف: عِلمٌ ليس يُـدركـه إلا أخُـو فِطنـةٍ بالحـقِّ معروف، وكيفَ يعرفـه مَن ليس يَشْـهَدُه؟ وكيفَ يشهد ضوءَ الشَّمس مكفوفُ؟ وقال شاعرنا المكزون السنجاري (قدسه الله):
عِلمُ التَصَوُّفِ لَيسَ يُــدرَكُ بِالإِشارَةِ وَالعِبارَه
إِلّا لِقَلـْبٍ مُخلِـصٍ بِالـرُّوحِ مُلقيها أَمارَه
فَجَلا اليَقينُ الظَنَّ عَنــهُ بِحَقِّـهِ وَجَلا غُبارَه
حتى الأمم المتحدة أقرَّتها.
جاء في إعلان الجمعية العامة للأمم المتحدة 1992، بشأن حقوق الأشخاص المنتمين إلى أقليات قومية أو إثنية وإلى أقليات دينية ولغوية:
المادة 2:
1-يكون للأشخاص المنتمين إلى أقليات قومية أو إثنية وإلي أقليات دينية ولغوية: الحق في التمتع بثقافتهم الخاصة، وإعلان وممارسة دينهم الخاص، واستخدام لغتهم الخاصة، سرا وعلانية، وذلك بحرية ودون تدخل أو أي شكل من أشكال التمييز.
حتى القوانين الوضعية راعت هذا الجانب من التقية وأقرته، بعدما شعرت بضرورته.
ونختم بقول الإمام الصادق (ع) لأبي بصير: يا أَبَا مُحَمَّدٍ، لا تُفَتِّشِ النّاسَ عَن أديانِهِم؛ فَتَبقى بِلا صَديقٍ.
وسلامٌ على طيبِ الكلامِ